عن أي “سلام” نتحدّث؟ كيان نووي لا يطبّق القرارات الدولية ومحميّ بالفيتو الأميركي

بقلم الإعلامي خضر رسلان
في عالمٍ يُعاد فيه إنتاج الخطاب السياسي كل يوم، تُرفَع كلمة “السلام” كأنّها وصفة جاهزة لحلّ كل الأزمات. تُستخدَم في بيانات رسمية، وفي قمم دولية، وفي تصريحات دبلوماسية تُصاغ بعناية. لكن خلف هذا الإلحاح على “السلام”، يبرز سؤال بسيط ومباشر، يتجاهله البعض عمداً:
عن أي “سلام” نتحدّث… مع كيانٍ يمتلك ترسانة نووية خارج الرقابة، ولا يطبّق قراراً دولياً واحداً، ويتحصّن بالفيتو الأميركي كلما اقتربت الحقيقة من الطاولة؟
هذا السؤال ليس من باب المزايدة، بل هو حجر الأساس لأي نقاش واقعي حول مستقبل المنطقة. فالنظام الدولي الذي يُفترض أن يقوم على قواعد واضحة تتساوى أمامها الدول، يتحوّل عند هذا الملف إلى بنية مختلّة بالكامل.
قرارات تصدر عن مجلس الأمن والجمعية العامة، لجان تحقيق، تقارير حقوقية، بيانات أممية… كلّها تبقى معلّقة لأن الفيتو جاهز دائماً لقطع الطريق. وهنا يصبح “السلام” مجرد كلمة تُستخدم لتغطية عجز المنظومة الدولية، لا لمعالجة جذور الأزمة.
من غزة إلى قانا، مروراً بكل المحطات التي وصلت إلى أروقة الأمم المتحدة، تتكرّر المأساة ذاتها: تُعرض الوقائع، تُرفَع الوثائق، تتحرّك البعثات، ثم يُسدل الستار بقرار واحد لا يُناقش—الفيتو الأميركي. يمكن له أن يمحو إدانة، أو يمنع لجنة تقصّي حقائق، أو يجمّد أي محاولة لمحاسبة المسؤولين، مهما كانت الأدلة واضحة.
فهل يمكن أن ينشأ “السلام” في ظل هذه المعادلة؟
وهل يمكن أن يشعر أي شعب بالأمان بينما أكثر الملفات خطورة تُدفن تحت ثقل السياسة؟
الكيان الذي يُفترض أن يكون شريكاً في “السلام” يتمتّع بتفوّق نووي غير خاضع للرقابة الدولية. لم يوقّع على معاهدة عدم الانتشار، ولا يسمح بتفتيش منشآته، ولا يلتزم بأي إجراءات حماية مقرّرة عالمياً.
وفي الوقت نفسه، يرفض تطبيق القرارات الدولية المتعلّقة بالأرض، والحدود، والاستيطان، واللاجئين.
فكيف يصبح “السلام” ممكناً إذا كان أحد الأطراف فوق القانون، لا يتأثر بقرارات المنظمة التي تُفترض أنها المرجعية العليا للعالم؟
الأخطر أنّ هذا الاستثناء لا يقتصر على الملف النووي أو القرارات السياسية، بل يشمل كل ما يتعلّق بالمحاسبة. مجزرة قانا، التي وثّقتها الأمم المتحدة نفسها، تحوّلت إلى ملفّ مؤجّل بلا نتائج. والتقارير الدولية حول غزة تُقدَّم إلى مجلس الأمن ثم تُفرَّغ من مضمونها أمام الفيتو.
فهل المطلوب من الشعوب أن تتجاهل هذه الوقائع وتُقنع نفسها بأن “السلام” ممكن في ظل غياب العدالة؟
“السلام” الحقيقي ليس خطاباً دبلوماسياً ولا مشهداً بروتوكولياً أمام الكاميرات.
“السلام” منظومة حقوق، وقانون مُلزِم، وتوازن في القوة يسمح للطرف الأضعف أن يشعر بأن هناك مرجعية تحميه.
ولا يمكن لهذه المنظومة أن تعمل إذا كان القانون نفسه يتوقّف عند حدود طرف واحد، بينما تُطالَب بقية الأطراف بالالتزام والتنازل وانتظار المكافأة التي قد لا تأتي.
إنّ أي مشروع لاستقرار المنطقة يجب أن يبدأ بالاعتراف بأنّ الحماية المطلقة التي يؤمّنها الفيتو الأميركي للكيان النووي هي العائق الأول أمام أي فرصة لـ”السلام” بمعناه الحقيقي.
فلا يمكن بناء مستقبل آمن بينما القرارات الدولية تُجمَّد، والحقوق تُهمل، والميزان يميل دائماً نحو جهة واحدة رغم كل التقارير والوقائع.
وحين يصبح التفوّق النووي خاضعاً للرقابة، وتصبح القرارات الدولية قابلة للتطبيق لا زيارة شكلية للأرشيف، وحين يفقد الفيتو دوره كدرعٍ يمنع المحاسبة—عندها فقط يمكن أن نتحدّث عن “السلام” الجدي.
أمّا اليوم، فإنّ تسويق “السلام” هو محاولة لتجميل واقعٍ مختلّ لا يستقيم ولا يمكن أن يدوم.
وبين “سلام” يُفرض بالقوة، و”سلام” يقوم على العدالة، ستختار الشعوب دائماً الثاني—لأنه “السلام” الوحيد الذي يستحق أن يُسمّى بذلك.
